فصل: قال عبد الكريم الخطيب:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال عبد الكريم الخطيب:

قوله تعالى: {وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا}.
عبد اللّه، هو رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وفى إضافته- صلوات اللّه وسلامه عليه- إلى اللّه سبحانه وتعالى بصفة العبودية، تكريم وتشريف له، ورفع لمقامه الكريم عند ربه، وأنه عبد اللّه، الخالص العبودية للّه، والمثل الكامل لهذه العبودية، التي تحققت فيه وحده، فانفرد بها في هذا المقام، فحيث أضيف عبد إلى اللّه من غير ذكر اسمه، فالمقصود هو محمد صلوات اللّه وسلامه عليه..
وقد أضاف اللّه سبحانه وتعالى كثيرا من عباده المكرمين إليه بلفظ العبودية، ولكنها لم تكن إضافة مطلقة، بل كانت مقيدة بذكر اسم هذا العبد المضاف إلى اللّه، كما يقول سبحانه: {ذِكْرُ رحْمتِ ربِّك عبْدهُ زكرِيّا} (2: مريم) وكما يقول تبارك اسمه: {واذْكُرْ عبْدنا أيُّوب إِذْ نادى ربّهُ أنِّي مسّنِي الشّيْطانُ بِنُصْبٍ وعذابٍ} (41: ص) ويقول جل شأنه: {واذْكُرْ عِبادنا إِبْراهِيم وإِسْحاق ويعْقُوب أُولِي الْأيْدِي والْأبْصارِ} (45: ص) وفرق كبير في مقام التكريم والتشريف بين إضافة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالعبودية إلى ربه إضافة مطلقة، وبين قيد هذه الإضافة بالاسم الدال على صاحبها، وإن كانت تلك الإضافة مما يلبس صاحبها تاج الكمال وينزله أعلى منازل الرضوان.. ولكن فوق هذا المقام الكريم العظيم مقام، ينفرد به رسول اللّه محمد وحده..
وقد أضيف رسول اللّه- صلوات اللّه وسلامه عليه- عبدا لربه، إضافة مطلقة، على صور متعددة، فتارة يضاف إلى ضمير الذات العلية في مقام الغيبة، كما في قوله تعالى: {سبحان الّذِي أسْرى بِعبْدِهِ ليْلا مِن الْمسْجِدِ الْحرامِ إِلى الْمسْجِدِ الْأقْصى} (1: الإسراء) وتارة يضاف إلى ضمير الذات في مقام الحضور، كما في قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ آمنْتُمْ بِاللّهِ وما أنْزلْنا على عبْدِنا يوْم الْفُرْقانِ يوْم الْتقى الْجمْعانِ} (41: الأنفال) وتارة يضاف إلى اسم الذات كما في قوله تعالى: {وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ يدْعُوهُ}.
(19: الجن) ولا شك أن في تنوع هذه الإضافات زيادة تشريف وتكريم، فوق هذا التشريف والتكريم، حيث يضيف الحق سبحانه وتعالى عبده، متجليا عليه بذاته ظاهرا، وباطنا..
وبهذا المقام العظيم استحق الرسول الكريم، أن يصلّى عليه ربه، وأن تصلى عليه ملائكة ربه، وأن يدعى كل مؤمن ومؤمنة باللّه، للصلاة عليه:
{إِنّ اللّه وملائِكتهُ يُصلُّون على النّبِيِّ.. يا أيُّها الّذِين آمنُوا صلُّوا عليْهِ وسلِّمُوا تسْلِيما} (56: الأحزاب).. فصلى اللّه عليك يا رسول اللّه وعلى آلك وصحبك، وسلم تسليما..
وقوله تعالى: {يدْعُوهُ} أي يدعو ربه، وهو حال من الفاعل في قوله تعالى: {وأنّهُ لمّا قام عبْدُ اللّهِ} وقوله تعالى: {كادُوا يكُونُون عليْهِ لِبدا} أي كاد المشركون أن يكونوا لبدا على النبىّ، أي جمعا واحدا عليه، يجتمع بعضهم إلى بعض في مساندة وتلاحم، كما يجتمع اللّبد، وهو الشعر الكثيف، حيث يكون كتلة واحدة مثل لبد الأسد المجتمع على صدره، وحول عنقه، ومنه قوله تعالى: {يقول أهْلكْتُ مالا لُبدا} (6: البلد) أي كثيرا مجتمعا بعضه إلى بعض..
وفى هذا التصوير لاجتماع المشركين، وتكتلهم على الوقوف في وجه النبىّ- في هذا ما يشير إلى أمور:
أولها: أن هذا المجتمع الذي يضم المشركين بعضهم إلى بعض في مواجهة النبىّ- ليس له من داعية معقولة، وإنما هو صادر عن كائنات ميتة، لا حسّ ولا إدراك لها، إنها تجتمع وتتفرق، بيد من يجمعها أو يفرقها، كما يجتمع الشعر ويتفرق في يد من يجمعه، أو يفرقه.. والشيطان هنا هو اليد التي تجمع هؤلاء المشركين، أو تفرقهم حسب مشيئته فيهم..
وثانيها: أن هذه الجموع الكثيفة المحيطة بالنبيّ من المشركين، إنما هي على كثرتها غثاء كغثاء السيل، وأنها لا تلبث أن تعر من وجه الحق إذا طلع عليها وضربها الضربة القاضية.. إنها كائنات من مخلفات الحياة، ليس لها جذور تمدها بالغذاء، وتمسك عليها الحياة.. وإنه سرعان، ما تجف وتتطاير، فتذهب بها الريح، وترمى بها في كل وجه..
وثالثها: أن هذا اللبد المجتمع حول النبىّ، هو أشبه باللبد المجتمع حول رقبة الأسد، فهو شيء عارض، لا يؤثر في ذاتية الأسد، وأنه يتطاير في كل لحظة ليخلى مكانه لغيره.
ورابعها: أن هذا اللّبد المجتمع حول النبىّ- صلوات اللّه وسلامه عليه- وإن كان في هذا الوقت لبدا يشوكه، ويؤذيه، فإنه سيتحول عما قريب إلى لبد يحميه، ويدفع عنه كل أذى.. وهكذا فإنه بعد سنوات قليلة اجتمع للنبىّ من هؤلاء المشركين جند اللّه، المدافعون عن دينه، والمجاهدون في سبيله، وهم المهاجرون، الذين كانوا مع إخوانهم الأنصار الكتيبة الأولى حملت راية الإسلام. وركزتها في أعزّ، وأمكن مكان، ودافعت عنها بالأرواح والأموال، وفدّتها بالأبناء والآباء..
قوله تعالى: {قُلْ إِنّما أدْعُوا ربِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أحدا}..
هو توجيه من اللّه سبحانه للنبىّ الكريم، بما يلقى به قومه الذين كادوا يكونون عليه لبدا.. فهو إذ يراهم وقد صاروا عصبا عليه، قد اجتمعوا على عداوته والكيد له- إذ يراهم على تلك الحال، يقول لهم: {إِنّما أدْعُوا ربِّي ولا أُشْرِكُ بِهِ أحدا}.
فهذه هي دعوتى.. فماذا تنكرون منها؟
وماذا تنكرون من الذين يعبدون ما أعبد؟ إنها دعوة لا إكراه فيها، فمن قبلها، فذلك من شأنه هو، ومن أعرض عنها، واتخذ سبيلا غيرها، فذلك من شأنه أيضا.. فلم إذن تصدّون الناس عن سبيل اللّه؟ ولم لا تتركون الناس وما اختاروا، كما تركتم أنتم وما اخترتم؟
قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا قُلْ إِنِّي لنْ يُجِيرنِي مِن اللّهِ أحدٌ ولنْ أجِد مِنْ دُونِهِ مُلْتحدا}.
هو من قول النبي المشركين، فهو إذ يعبد ربّه، ويوجه إليه وجهه، وحده، لا شريك له، فإنه لا يملك المشركين ضرّا، ولا رشدا.. وإنما ذلك إلى اللّه وحده. {فمنْ يُرِدِ اللّهُ أنْ يهْدِيهُ يشْرحْ صدْرهُ لِلْإِسْلامِ ومنْ يُرِدْ أنْ يُضِلّهُ يجْعلْ صدْرهُ ضيِّقا حرجا كأنّما يصّعّدُ فِي السّماءِ} (125: الأنعام).
وفى مقابلة الضرّ بالرشد، إشارة إلى أن الضر لا يكون إلا عن متابعة الهوى، واتباع أهل الضلال، كما أن الخير، لا يكون إلا من ثمرات الهدى، والاستقامة والتقوى.. وهكذا تقع المقابلة بين الضرّ والرشد، وقوعا يشمل الظاهر والباطل جميعا..
فالضرّ، ظاهر، يخفى وراءه الهوى، والضلال، والشرك.. والرشد باطن، يفوح منه طيب الخير، وتهمى من سمائه غيوث الرحمة والإحسان..
أو بعبارة أوضح نقول: إن الضرّ فرع غاب أصله، والرشد أصل غاب فرعه.. فالضرّ ثمر كريه مرّ حاضر، لا تكاد تقع العين عليه حتى تعرف الشجرة التي أثمرته..
والرّشد، شجرة طيبة مباركة.. يكفى أن تقع العين عليها فتعرف الثمر الطيب الكريم، الذي تجود به.. أو نقول: إن المقابلة هنا بين المسبب، وهو الضرّ، وبين السبب لما يقابله وهو الرشد الذي مسبّبه الخير..
وهكذا في كلمتين، يتجلى وجه من وجوه إعجاز القرآن.. ففى المقابلة بين هاتين الكلمتين: الضرّ، والرشد، تتحرك المعاني المولدة منهما، ويقابل بعضها بعضا، فتتآلف منها صورة معجزة، الكلمة القرآنية، التي لا ينفد لها عطاء.
فعلى وجه الضرّ تلوح معالم الشرك، والكفر، والضلال، وتتراقص شياطين الغواية، والإثم..
وعلى وجه الرّشد، تتألق عرائس الخير، وتتهادى حور الجنان وولدانها.
وهنا سؤال، وهو: لما ذا آثر النظم القرآنى، المقابلة بين الضرّ والرشد، على المقابلة بين الكفر، والخير، أي المقابلة بين مسبب وسبب، دون المقابلة بين مسبّب ومسبب، أو بين سبب وسبب؟
ونقول- واللّه أعلم- إنه في جانب الضرّ أغفل السبب الوارد منه هذا الضرّ، وهو الكفر والشرك، وأقيم المسبّب- وهو الضرّ- مقامه، ليرى الشرك والكفر في ثمرتهما المرّة النكدة التي أثمراها..
وأما في جانب الرّشد، فقد أغفل المسبب عنه، وهو الخير، والنعمة والسلامة والعافية، وما أشبه هذا مما يسعد به الإنسان في الدنيا والآخرة، وأقام السبب مقامه، وذلك للتنويه بالرّشد في ذاته، وأنه وحده خير، وخير كثير، وأنه يجب أن يكون مطلوبا لذاته، غير منظور إلى الخير الذي يجيء منه.. إنه في ذاته خير، فلا حاجة إلى النظر فيما وراءه.
والنبىّ- وهو رسول اللّه، والحامل لرسالته، والداعي إليها- هو في قبضة اللّه، وتحت سلطان مشيئته.. وأنه لو أراد اللّه ضرّه، فليس هناك من يدفع عنه هذا الضرّ، وليس له من ملتحد، أي ملجأ يلجأ إليه، فرارا من هذا الضرّ الذي هو رهن بمشيئة اللّه..
إنه لا محاباة عند اللّه، حتى ولو لرسول اللّه- وإنما الناس عند اللّه بأعمالهم، وما هم عليه من إيمان وكفر، ومن تقوى وفجور.. واللّه سبحانه وتعالى يقول: {إِنّ أكْرمكُمْ عِنْد اللّهِ أتْقاكُمْ} [13: الحجرات] أي أشدكم خوفا من اللّه، ومراقبة له، واتقاء لحرماته.. ولما كان رسول اللّه صلوات اللّه وسلامه عليه، هو أتقى الأتقياء، كانت منزلته عند اللّه أعلى المنازل وأكرمها، فهو مطمئن إلى ماله عند اللّه من مقام كريم، وأجر عظيم..
قوله تعالى: {إِلّا بلاغا مِن اللّهِ ورِسالاتِهِ ومنْ يعْصِ اللّه ورسُولهُ فإِنّ لهُ نار جهنّم خالِدِين فِيها أبدا} هو مستثنى من قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي لا أمْلِكُ لكُمْ ضرّا ولا رشدا} فهو بمعنى لا أملك لكم من اللّه شيئا، إلا هذا البلاغ الذي أبلغكم به من اللّه، وإلا هذه الرسالات التي أحملها إليكم في آيات اللّه.. فهذا هو الذي أملكه من اللّه لكم، بعد أن ملّكنى إياه.. وها هو ذا أعرضه عليكم، وأبلغكم ما أرسلت به إليكم.. أما ما وراء هذا، فلا أملك لكم من اللّه شيئا منه، فلا أملك هداية لمن أضله اللّه، أو إضلالا لمن هداه اللّه..
وفى جمع {الرسالات} مع أن رسالة الرسول واحدة، لا جمعا- في هذا إشارة إلى أن كل آية من آيات اللّه، هي رسالة من رسالات اللّه، إلى عباد اللّه، يرون في أنوارها، مواقع الهدى والرشاد، وإنه بحسب الإنسان العاقل أن يتلو آية من آيات اللّه، أو يستمع إليها، فيجد طريقه إلى الإيمان والهدى.. ولقد استمع الجن إلى آيات من القرآن الكريم فكان فيها هداهم ورشدهم..
وقوله تعالى: {ومنْ يعْصِ اللّه ورسُولهُ فإِنّ لهُ نار جهنّم خالِدِين فِيها أبدا}.
هو تعقيب على قوله تعالى: {إلا بلاغا من اللّه ورسالاته}، فهذا البلاغ من اللّه، وتلك الرسالات المنزلة في آياته- هو مما بلغه الرسول إياهم، ودعاهم إلى تصديقه، والإيمان به، وأن من يعص اللّه، فلم يؤمن بآياته، ويعص الرسول، فلم يستجب له- فإن له نار جهنم خالدا فيها أبدا.. فذلك هو جزاء من يعصى اللّه ورسوله..
وفى عود الضمير مفردا على اسم الشرط {من} في قوله تعالى: {فإِنّ لهُ نار جهنّم} ثم عوده عليه جمعا في قوله تعالى: {خالِدِين فِيها أبدا}- في هذا إشارة إلى أن العصيان لأمر اللّه ورسوله، هو عن استجابة لهوى الإنسان وحده، وأنه هو المسئول عن ركوبه هذا الطريق المهلك..
أما المصير الذي يصير إليه هذا الإنسان، فهو مصير عام يلتقى عنده أهل الضلال جميعا، وهو النار..
قوله تعالى: {حتّى إِذا رأوْا ما يُوعدُون فسيعْلمُون منْ أضْعفُ ناصِرا وأقلُّ عددا} هو تهديد المشركين، وأنهم إذا كانوا في يومهم هذا، يعتزون بقوتهم، وكثرة عددهم، ويتسلطون على تلك القلة المستضعفة المؤمنة، ببغيهم وعدوانهم، ويجتمعون لبدا عليهم- فإنه سيأتى اليوم الذي يوعدون فيه بهذا العذاب، حيث يرون أنه قد تخلّى عنهم كل ما كان موضع قوة وعزة لهم، وأنهم قد صاروا حطبا لنار جهنم.
ويجوز أن يكون مما يوعدون به، هو ما تهددهم اللّه به من الهزيمة والخذلان في الدنيا، في قوله تعالى: {سيُهْزمُ الْجمْعُ ويُولُّون الدُّبُر} (45: القمر) وفى قوله تعالى: لنبيه الكريم: {وإِمّا نُرِينّك بعْض الّذِي نعِدُهُمْ أوْ نتوفّينّك فإِليْنا مرْجِعُهُمْ} (46: يونس).. وغير ذلك من الآيات التي أشارت إلى نهاية هذا الصراع القائم بين المشركين، والمؤمنين.. وأن النصر، والغلب والعزة ستكون للّه، ولرسوله، وللمؤمنين..
ولقد رأى المشركون مصداق قوله تعالى: {فسيعْلمُون منْ أضْعفُ ناصِرا وأقلُّ عددا}- لقد رأوا ذلك رأى العين، يوم الفتح، حيث دخل النبي مكة على المشركين في عشرة آلاف من أصحابه، فانقبع المشركون، وزلزلت الأرض بهم، ثم جاءوا إلى النبي مقيدين بقيد المهانة والذلة، حتى أطلقهم الرسول الكريم بقولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء»!. اهـ.